السبت، 6 فبراير 2010

الإبداع والتلقي فـي الشعـر الجــاهلـي

يعالج هذا البحث قضيّتي الإبداع والتلقي في الشعر الجاهلي، معتمدا على الدراسات التي تناولت قضية الإبداع الفني بشكل عام، ويعتمد كذلك على نظرية التلقي الحديثة، في محاولة لتطبيق بعض أصولها على الشعر الجاهلي. ويتضمن البحث تمهيدا وثلاثة فصول، يضع التمهيد الأساس النظري الذي يعتمد عليه البحث، حيث يتناول مسألة الإبداع الفني، من خلال المناهج المفسرة بشكل موجز، كالمنهج النفسي، ونظرية الإلهام وآراء النقاد العرب في عملية الإبداع. ويتناول التمهيد أيضا نظرية التلقي التي نشأت في ألمانيا، في آواخر الستينيات، بإيراد أهم خطوطها العريضة.

ويتناول الفصل الأول الإبداع الشعري في العصر الجاهلي، فيعرض لنظرة الجاهليين أنفسهم إلى الإبداع الشعري، وكيفية تفسيرهم له فنجد هذا التفسير قد ارتبط عندهم بزمنين مختلفين، الزمن الأول: ارتبط فيه هذا التفسير بالوحي، والإلهام، والآلهة، فيما عرف بشياطين الشعراء، حيث كان الشعر لا يزال محافظا على الهالة الدينية القديمة، المرتبطة بالكهانة، والتعاويذ، والابتهالات الدينية، واستمر وجود هذه الفكرة التي أخذت بالضعف تدريجيا، حتى العصور الإسلامية الأولى. والزمن الثاني: وهو المرحلة التي بدأ الشعر فيها يفقد قداسته، و هالته الدينية، مع بقاء جذورها حاضرة، ونجد الجاهليين في هذه المرحلة يلجأون في تفسير إبداعهم إلى قضية الاكتساب، وتعلم الخبرات الشعرية من السابقين، وهذا في ظاهره يبدو فكرا متناقضا، لولا وجود مرحلتين متداخلتين، في النظرة إلى الشعر في ذلك العصر.

ويتضمن الفصل الأول أيضا تفاصيل علاقات العرب مع الجن، إضافة إلى دراسة موضوعي الكهانة والسحر وعلاقتهما بالشاعر الجاهلي، فيظهر ارتباط الشعر الجاهلي بالكهانة والسحر، في مرحلة من المراحل القديمة، التي امتدت جذورها إلى مراحل متأخرة في ذلك العصر، يثبت ذلك الكثير من الأخبار، والأشعار، والقصص، إضافة إلى التشابه في العديد من الأمور، بين الشاعر من جهة، وبين الكاهن والساحر من جهة أخرى، ليس أدل على ذلك من اقتران الشعر بالسحر، في مواضع عدة في القرآن الكريم. وينتهي الفصل بعرض أهم مصادر الإبداع في العصر الجاهلي. حيث نلاحظ أن المصادر التي استقى منها الشاعر الجاهلي إبداعه، كثيرة ومتنوعة، وربما تكون الطبيعة، ومجالس اللهو والخمر، والحروب، من أهم مصادر الإبداع بالنسبة للشاعر الجاهلي، لما يحمله كلٌ من هذه المصادر من خصوصية، ترتبط بالديانات الجاهلية من جهة، وبالأعراف والتقاليد من جهة أخرى

أما الفصل الثاني، فيتناول الدوافع المؤثرة في الإبداع الشعري الجاهلي، وبما أن المؤثرات في عملية الإبداع الشعري كثيرة لا حصر لها؛ فقد تم التركيز على أكثرها تأثيرا في إبداع الشاعر الجاهلي، حيث تضمن الفصل اللاشعور الجمعي، وتأثيره في عملية الإبداع، وتتبعت بعض الأمثلة الأصلية في العصر الجاهلي لإثبات دور اللاشعور الفاعل في عملية الإبداع، وتضمن الحديث عن اللاشعور تتبعَ حضوره في لوحات الطلل والغزل والرحلة، وتفسير بعض الصور والألفاظ المكررة في هذه اللوحات من خلاله، وبعد اللاشعور الجمعي عُرض دور الدين والأسطورة في الإبداع الشعري الجاهلي، وحُصرت أنواع الأساطير التي يمكن أن نجد لها صدى في الشعر، ومُثّل على كل نوع، مع الإشارة إلى بعض الدراسات التي تناولت هذا الشعر، مستندة على المنهج الأسطوري، وتبين في هذا الفصل أن الأسطورة ( الدين ) قد تدخلت في دفع الإبداع الشعري الجاهلي، وظهر هذا الإبداع في ثلاثة أشكال: الأول: أساطير تعبر عنها نماذج بدائية، أو أصلية، وصلت عن طريق اللاشعور الجمعي، والثاني: أساطير ومعتقدات يمارسها الجاهليون، ويؤمنون بها،وقد وظفها الشعراء لخدمة مواقف معينة في إبداعهم، والثالث: أساطير ومعتقدات، تدخل في الإبداع الشعري الجاهلي، لتنقل حضورها الفعلي المباشر، باعتبارها معتقدا يؤمن به الشاعر، أي لا يمكن اعتبار وجودها في الشعر توظيفا.

وخُتم الفصل الثاني بالحديث عن دور التجربة الصعبة في رفد الإبداع الشعري الجاهلي، وقد عرض الباحث أنواع هذه التجارب، واستنتج من خلالها أن الشاعر الجاهلي قد عاش حياة معقدة، مليئة بالتجارب الغنية المؤثرة، ويمكن للباحث أن يميز نوعين من التجارب الدافعة للإبداع في ذلك العصر، الأول: يتمثل في التجارب العامة التي يعيشها الجاهليون في حياتهم، وهي تتكرر عند معظم الشعراء، ومصدرها العلاقات الاجتماعية، والممارسات اليومية المختلفة، والثاني: يتمثل في التجارب الخاصة بالشاعر، المرتبطة به ارتباطا وثيقا، حيث تؤثر في أدوار حياته الرئيسة بشكل مباشر، ويمكن وصفها بالتجربة الخصبة.

وتناول الفصل الثالث موضوع التلقي في الشعر الجاهلي، واستعان فيه الباحث بنظرية التلقي الحديثة، وآراء النقاد العرب، وما أوردوه من ملاحظات بناءة في ثنايا كتبهم النقدية، وبُدىء الفصل بالحديث عن دور المتلقي الجاهلي في عملية الإبداع، باعتباره دافعا لها من جهة، ومشاركا فيها من جهة أخرى، فظهر أن المتلقي الجاهلي لعب دورا أساسيا في عملية الإبداع الشعري، وأن دوره لم يقف عند المبدأ الذي يعتبر وجود المتلقي أصلا، سببا رئيسا في الإبداع، بل تجاوز ذلك، إلى مشاركة الشاعر في إنتاج قصيدته بعدة طرق، مثل فرضه للقيود المتعددة على الشاعر، وإلزامه بإيجاد القارئ الضمني في نصه، حتى غدا المتلقي الجاهلي مشاركا فعليا للشاعر، لا يقل شأنا عن المتلقي في العصور الأدبية اللاحقة.

وتضمن الفصل عرضا لصلة المتلقي بالمبدع في المجتمع الجاهلي فتبين أن علاقتهما تحددت، عن طريق النص الشعري من جهة، وعن طريق التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، وتمثلت العلاقة الاجتماعية، بالنظرة إلى الشاعر من خلال مكانته الكبيرة في المجتمع، ومن خلال طبيعة المتلقي الجاهلي، الذي تمثل بالمتلقي الخاص تارة، والمتلقي العام تارة أخرى، وتمثل الأول بالملوك، ورؤساء القبائل، وأصحاب الجاه والمكانة، ومثل الثاني عامة الناس من أبناء المجتمع الجاهلي.

وتضمن الفصل بعد ذلك عرضا موجزا لدور المتلقي في تحديد الموضوعات والأغراض الشعرية التي تضمنتها القصيدة الجاهلية، فتبين أن المتلقي قد ساهم مساهمة مباشرة، في تحديد موضوعات القصيدة الجاهلية، وأغراضها المختلفة، فعلاقة الفنان الشاعر بالمجتمع المتلقي، تفرض عليه أن ينتج ما يناسب أفق توقع الأخير، وانتظاراته في مختلف النواحي المتعلقة بالعمل الأدبي.

وخُتم الفصل بموضوع الغنائية في الشعر الجاهلي، الذي يعتبر شعرا غنائيا بالدرجة الأولى، فهو قابل للتلحين والغناء، وقد شاع غناؤه على ألسنة القيان منذ أقدم العصور الجاهلية،، ويبدو أن ارتباط الشعر الجاهلي بالغناء يعود إلى أقدم الأزمنة، التي عُرف فيها الشعر، حين كان الغناء ابتهالات وأدعية دينية، تقدم إلى الآلهة، واستمر ارتباط الغناء بالشعر إلى العصور اللاحقة، خاصة وأن الشعر الجاهلي قد اعتمد على الرواية الشفهية في انتقاله بين الناس، ومن جيل لآخر، والغناء من أهم العوامل المساعدة على الحفظ، والثبات في الذاكرة، إضافة إلى دوره الكبير في جذب نفس المتلقي للاستمتاع بالشعر وتذوقه.

وقد أفاد الباحث في هذا البحث من مجموعة من الدراسات والأبحاث، التي كان لها فضل كبير في إثرائه، لعل أهمها دراسة الدكتور مصطفى سويف: الأسس النفسية للإبداع الفني"الشعر خاصة"، ودراسة الدكتور نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث، ودراسة الدكتورة ريتا عوض: بنية القصيدة الجاهلية" الصورة الشعرية لدى امرئ القيس"، ودراسة ناظم عودة خضر: الأصول المعرفية لنظرية التلقي،ودراسة الدكتور محمد المبارك: استقبال النص عند العرب. إضافة إلى محاضرات الدكتور إحسان الديك،وأبحاثه وتوجيهاته التي ساهت في إثراء البحث وإتمامه

النص الكامل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق